Thursday, February 14, 2008

كارثة دينية عربية اسمها "يوسف البدري" - مقال للدكتور خالد الحروب - جريدة الأتحاد

كتب د/ خالد الحروب فى جريدة الأتحاد
13-2-2008


هناك شيخ متوتر في مصر اسمه يوسف البدري يقود حملة ضد مثقفيها ورموز إبداعها, وضد كل فكرة يمكن أن تعتبر تجديداً في الفكر والممارسة الإسلامية, بدءاً من إعادة تفسير النص الديني وصولاً إلى حظر ختان الإناث. كلما اختفت زوبعة من الزوابع التي يثيرها هذا الشيخ في الإعلام بسبب ملاحقته لهذا المفكر أو المثقف أو الفنان, تحت مسمى الحُسبة, حتى يثير لنا زوبعة أخرى أكثر بشاعة في مضمونها.
بيد أن بشاعة ما يقوم به البدري كان يمكن أن تكون حدثاً عابراً لا يستحق التعليق أو التوقف عنده, لولا أن خطورته تكمن في أنه يعبِّر عن ظاهرة أوسع: مطاردة الفكر الديني المُتعصب للثقافة والمثقفين, وللإبداع بأنواعه في عالمنا العربي والإسلامي. تتم هذه المطاردة في ظل قوانين قاصرة وفيها ثغرات كبيرة تتيح لأي كان أن ينطق باسم الدين ويتمنْطق سيفه ويزعم أنه يدافع عنه ضد هذا المثقف أو ذاك الشاعر.
البدري أقام دعوى ضد الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي, وكسبها مع الأسف, وأتبعها بدعوى ضد ثمانية من أهم كُتاب ومثقفي مصر منهم جمال الغيطاني, وجابر عصفور, وعزت القمحاوي, لأنهم ناصروا الشاعر حجازي ووقفوا مع الإبداع ضد ظلامية الشيخ وانغلاقه.
وكثيرون طبعاً يذكرون اسم البدري في القضية سيِّئة الصِّيت التي تداولتها المحاكم المصرية عامي 1993 و1994 عندما رفع دعوى تفريق بين المفكر نصر حامد أبو زيد وزوجته, وتسبَّب في هجرته إلى هولندا منذ ذلك الحين. الخلل الفاضح في القانون المصري, وما يحتويه من خلط ما هو ديني بما هو مدني وهو خلط يشوب معظم إن لم يكن كل القوانين العربية, هو الذي يجعل شخصاً كهذا يتحكم في رقاب مفكرين ومثقفين وفنانين كبار.
لكن من المُشين أن نرى أن ذلك لا زال يحدث في مصر, رائدة القوانين الدستورية والمدنية في المنطقة العربية.
ظاهرة "اليوسفية البدرية", التي تطارد المثقفين والمبدعين والفنانين العرب, في معظم إن لم يكن كل البلدان العربية، شواهدها أكثر من أن تحصى. في السنة أو السنتين الفائتتين فقط كانت هناك قضايا مطاردة من قبل رجال دين لمثقفين وفنانين في مصر, والأردن, والسعودية, والكويت, والبحرين, واليمن, والمغرب, وربما غيرها. في تلك القضايا تم حرق كتب, والتشهير بكُتاب ومثقفين, ومنع فنانين من ممارسة إبداعاتهم, وإحالة شعراء وأدباء إلى المحاكم. وفي معظم المحاكمات التي عُقدت كان ثمة تواطؤ مُخجل بين القانون و"اليوسفية البدرية" يقوم على المزايدة على التحدث باسم الدين, بحيث تتنافس الدولة و"البدريون" في الظهور بمظهر حامي الدين، بما يخفض من سقف الحريات أكثر فأكثر ويحاصر الإبداع والمبدعين.
من دون تفكيك البدرية اليوسفية وأشباهها بحيث تُغل يدها عن السيطرة على أنفاس المجتمع··· فإن مجتمعاتنا ستظل تراوح في مكانها، وسنظل نحرث البحر·
في الدولة الحديثة, أي دولة, وفي المجتمع الحديث, أي مجتمع, يعمل القانون على حماية الثقافة والإبداع, وإفساح المجال لهما, وليس قمعهما. في الدولة الشمولية/ الأصولية (سواء أكانت دينية أم علمانية) يعمل القانون على عكس ذلك: تدمير الثقافة, ومحاصرة الإبداع, والنظر إلى الفنانين والأدباء نظرة تشكيكية وتخوينية.
تضاد الديكتاتورية والأصولية مع الثقافة والإبداع هو تضاد جيني لا يمكن مصالحته, وليس منه انفكاك. وما نراه في الفضاء العربي من تصادم صار شبه منتظم في هذا البلد أو ذاك من مطاردة لكُتاب, أو محاكمة لمثقف, أو دعوى ضد مفكر, أو فتوى تصدر بحق فنان, ليس سوى التعبير الاعتيادي عن ذلك التضاد الأزلي. فالإبداع مع انفتاح الحدود, والديكتاتورية والأصولية مع إغلاقها. الثقافة مع التعددية, والشمولية الأصولية مع الواحدية. الإبداع يثير الأسئلة ويعزز من القلق الإيجابي, ويكرس التأمل, ويهرب من تقديم الأجوبة الجاهزة والمُعلبة. الأصوليات الشمولية وديكتاتورياتها وفكرها يبدأ أول ما يبدأ بتقديم أطباق من الأجوبة المعلبة الجاهزة: حرية الفرد تكمن فقط في تلقف تلك الأجوبة وبلعها ثم تكرارها ببلاهة وطفولية وعدم مساءلتها.
لكن الشيء المميز في ظاهرة "اليوسفية البدرية" (ذات المنزع الديني) في الفضاء العربي هو أنها تصدر عن أشخاص وجهات لا تتمتع بامتلاك السلطة, على خلاف ظواهر القمع الثقافي في الديكتاتوريات ذات المنزع العلماني أو الحداثوي الفاشستي. ففي العصر الحديث كان جدانوف روسيا الستالينية, وغوبلز ألمانيا النازية, على سبيل المثال القمعي, من أركان النظامين الدمويين وصاحبيْ سلطة باطشة. لم يملكا أي رمزية أو وزن معنوي (كما هو الوزن أو الرمزية التي يمكن أن يدعيها البدري, و"البدريون"), ولولا السلطة لما عُرفا اسماً أو مساهمة. لكن كليهما, جدانوف وغوبلز, امتلك آلة القمع الجبارة التي منحتهما الأوسمة الكافية كي يستأهلا تبوأ مكانة متقدمة في فيالق جزاري الثقافة والمثقفين. لكن البدري وسائر "بدريي" الأصوليات الدينية أكثر عبقرية: إنهم جزارون للثقافة والمثقفين من دون أن يمتلكوا أية سلطة أو أية آلة قمع.
لنا فقط أن نتخيل دموية السيناريو فيما لو امتلك هؤلاء تلك السلطة وآلة قمعها.
والشيء المميز الآخر في ظاهرة "البدرية اليوسفية" الأصولية, إزاء عدائها المتأصل لحرية الفكر والإبداع وللثقافة والمثقفين, هو استدامة تغنيها بماضٍ زاهر للحضارة العربية والإسلامية لا تمت هي إليه بصلة. فأحد الجوانب المُشرقة لذلك الماضي كان الانفتاح والحرية والتعددية الفكرية والإبداع المفتوح على كل الفضاءات. في تلك الحضارة لم يزدهر العلم التقني فحسب, بل كذا حصل مع الفكر, والفلسفة, وعلوم المنطق والكلام, والموسيقى, والغناء, وشعر الغزل. وبلغت مناظرات الفلاسفة والمفكرين في بلاط الخلفاء وغير الخلفاء شأواً لا يمكن للمنطق "البدري" المنغلق أن يستوعبه هذه الأيام. تناقش الفلاسفة في كل الأمور, صغيرها وكبيرها, في مجتمعات غير مغلقة ومفتوحة للتفكير, وناقش فلاسفة وجود الله, وآخرون أعلنوا إلحادهم, من دون أن يلاحقهم "بدري" هنا أو هناك إما بقانون مشلول كي يفصلهم عن زوجاتهم أو بسيف مسلول كيف يفصل رؤوسهم عن أجسادهم.
ما تقوم به "البدرية اليوسفية" في حاضر العرب الآن هو ما قامت به نظيرتها في ماضي الغرب القروسطي عندما أحرقت كتب غاليلو وطاردت كل صاحب فكر جديد, وتنمَّرت للدفاع عن ظلاميتها. جوانب التشابه بينهما أكثر بكثير من جوانب الاختلاف. ولو لم يتخلص الغرب من سيطرة "بدريته" الخاصة به لظل يترنَّح في وحل ظلام قرونه الوسطى. وذلك التخلص, أو بمعنى آخر تحقق الإصلاح الديني الثوري, هو مفتاح إطلاق طاقات المجتمعات وتثويرها. فمن دون تفكيك "البدرية اليوسفية" وأشباهها ومدارسها المتنوعة وإعادة تركيبها بحيث تُغل يدها عن السيطرة على أنفاس المجتمع, وتوضع في مكانها المناسب وهو قناعات الفرد الخاصة به, بلا تغوُّل على الآخرين, فإن مجتمعاتنا ستظل تراوح في مكانها, وسنظل نحرث البحر ونتعجب لماذا لا يغدق علينا حراث الجاهلين ذاك تقدماً!
ادخل على موقع الجريدة

No comments: